الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام وهي فعلة من جزى يجزى: إذا قضى قال الله تعالى: قال [ولا تقبل الجزية إلا من يهودي, أو نصرانى أو مجوسى إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه] وجملته أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان, أهل كتاب ومن له شبهة كتاب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم, كالسامرة يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى عليه السلام وإنما خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية, والنسطورية والملكية والفرنج والروم, والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل, ومن عدا هؤلاء من الكفار فليس من أهل الكتاب بدليل قول الله تعالى: ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين أحدهما, أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول والثاني التزام أحكام الإسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم, لقول الله تعالى: مسألة قال: [ومن سواهم فالإسلام أو القتل] يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية, ولا يقرون بها ولا يقبل منهم إلا الإسلام فإن لم يسلموا قتلوا, هذا ظاهر مذهب أحمد وروى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار, إلا عبدة الأوثان من العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب, لتغلظ كفرهم من وجهين أحدهما دينهم, والثاني كونهم من رهط النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال الشافعي: لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى, مثل أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وإدريس وجهان أحدهما يقرون بالجزية, لأنهم من أهل الكتاب فأشبهوا اليهود والنصارى وقال أبو حنيفة: تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يقرون على غير دينه, وغيرهم يقر بالجزية لأنه يقر بالاسترقاق فأقروا بالجزية, كالمجوس وعن مالك أنها تقبل من جميعهم إلا مشركى قريش لأنهم ارتدوا وعن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, لحديث بريدة ولأنه كافر فيقر بالجزية, كأهل الكتاب ولنا قول الله تعالى: وإذا عقد الذمة لكفار زعموا أنهم من أهل الكتاب ثم تبين أنهم عبدة الأوثان فالعقد باطل من أصله وإن شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك, لأن الأصل صحته فإن أقر بعضهم بذلك دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده, وبقي في حق من لم يقر بحاله. قال: [والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهما, ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهما ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهما] الكلام في هذه المسألة في فصلين: الفصل الأول في تقدير الجزية والثاني في كمية مقدارها فأما الأول, ففيه ثلاث روايات إحداها أنها مقدرة بمقدار لا يزاد عليه ولا ينقص منه وهذا قول أبى حنيفة والشافعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرضها مقدرة بقوله لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا, أو عدله مغافر) وفرضها عمر مقدرة بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا والثانية أنها غير مقدرة, بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله فيزاد اليوم فيه وينقص؟ يعني من الجزية قال: نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الإمام, وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين قال الخلال العمل في قول أبى عبد الله على ما رواه الجماعة فإنه: لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه, في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك وهذا قول الثوري وأبى عبيد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا) (وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر, والنصف في رجب) رواهما أبو داود وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات على الغنى ثمانية وأربعين درهما, وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثنى عشر درهما وصالح بنى تغلب على مثلى ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأى الإمام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع, ولم يجز أن تختلف قال البخاري قال ابن عيينة: عن أبى نجيح قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة والرواية الثالثة, أن أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبى بكر, فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينقص منه وروى أنه زاد على ثمانية وأربعين, فجعلها خمسين الفصل الثاني: أننا إذا قلنا بالرواية الأولى وأنها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهما, وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول أبى حنيفة وقال مالك: هي في حق الغنى أربعون درهما أو أربعة دنانير, وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن عمر وقال الشافعي: الواجب دينار في حق كل واحد لحديث (معاذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا) رواه أبو داود وغيره إلا أن المستحب جعلها على ثلاث طبقات, كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا: وقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بالاتباع من غيره ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر, ولا خلاف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رضي الله عنهم فصار إجماعا لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به, وأما حديث معاذ فلا يخلو من وجهين أحدهما, أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد: إن ذلك من أجل اليسار والوجه الثاني أن يكون التقدير غير واجب, بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام ولأن الجزية وجبت صغارا أو عقوبة فتختلف باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن, منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار, لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والمكافيف وحد اليسار في حقهم ما عده الناس غنى في العادة وليس بمقدر, لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف. إذا بذلوا الجزية, لزم قبولها وحرم قتالهم لقول الله تعالى وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: تجب بأوله, ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول الله تعالى: فصل وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبى عبيد وغيرهم (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر) (وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ من نصارى نجران ألفى حلة) وكان عمر يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من الجزية وروى عن على رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية من كل ذى صنعة من متاعه, من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسال مسالا ومن صاحب الحبال حبالا, ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول: خذوا فاقتسموا فيقولون: لا حاجة لنا فيه فيقول: أخذتم خياره, وتركتم شراره لتحملنه وإذا ثبت هذا فإنه يؤخذ بالقيمة, لقوله عليه السلام (أو عدله مغافر) .
فصل ولا يصح عقد الذمة والهدنة إلا من الإمام أو نائبه وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا, لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة ولأن عقد الذمة عقد مؤبد فلم يجز أن يفتات به على الإمام, فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح لكن إن عقده على ما لا يجوز أن يطلب منهم أكثر منه, لزم الإمام إجابتهم إليه وعقدها عليه.
فصل ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين, لما روى الإمام أحمد بإسناده عن الأحنف بن قيس أن عمر شرط عليهم ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته, قال ابن المنذر وروى عن عمر أنه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام وعلف دوابهم, وما يصلحهم وروى (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة نفس في كل سنة, وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام) ولأن في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضرارا بهم, فإذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك وإن لم تشترط الضيافة عليهم لم تجب, ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ومن أصحابنا من قال: تجب بغير شرط كوجوبها على المسلمين والأول أصح, لأنه أداء مال فلم يجب بغير رضاهم كالجزية, فإن شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة, وقال الشافعي: لا يجوز قتالهم عليها ولنا أنه شرط سائغ امتنعوا من قبوله فقوتلوا عليه كالجزية فصل: ذكر القاضي, أنه إذا شرط الضيافة فإنه يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة والفرسان, فيقول: تضيفون في كل سنة مائة يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وأدم كذا وللفرس من التبن كذا, ومن الشعير كذا فإن شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين, من غير عدد ولا تقدير قال أبو بكر: إذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفون الذبيحة, ولا ضيافتهم بأرفع من طعامهم لأنه يروى عن عمر أنه شكا إليه أهل الذمة أن المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال: أطعموهم مما تأكلون وقال الأوزاعي ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير وقال القاضي: إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم الشعير, ويحتمل أن يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع, فإن عمر رضي الله عنه صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوها ركبانا فإن لم يجدوا مكانا, فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه والسابق إلى منزل أحق به ممن يأتى بعده فإن امتنع بعضهم من القيام بما شرط أجبر عليه, فإن امتنع الجميع أجبروا فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة, قوتلوا فإن قاتلوا فقد نقضوا العهد.
فصل وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز, لما روى أن عمر رضي الله عنه كتب في الجاهلية لراهب من أهل الشام: إننى إن وليت هذه الأرض أسقطت عنك خراجك فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه, وقال: إننى جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر إن شئت أداء الخراج, وإن شئت أن تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط عليه ضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية إذا قلنا: الجزية مقدرة الأقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر أن من الشروط الفاسدة اشتراط الاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم ممدودا إلى إعطاء الجزية, فإن لم يعطها كان قتالهم مباحا ووجه الأول اشتراط مال, يبلغ قدر الجزية فجاز كما لو شرط عليهم عدل الجزية مغافر.
فصل وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل أن يشترط أن لا جزية عليهم, أو إظهار المنكر أو إسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم, ونحو هذا فقال القاضي: يفسد العقد به لأنه شرط فعل محرم فأفسد العقد, كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يفسد الشرط وحده ويصح العقد بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة.
مسألة قال: [ولا جزية على صبي, ولا زائل العقل ولا امرأة] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وبه قال مالك وأبو حنيفة أصحابه والشافعي وأبو ثور وقال ابن المنذر: ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وقد دل على صحة هذا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية, ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسى رواه سعيد وأبو عبيد والأثرم وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: (خذ من كل حالم دينارا) دليل على أنها لا تجب على غير بالغ ولأن الدية تؤخذ لحقن الدم, وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها.
فصل وإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها فإن قالت: فأنا أتبرع بها أو: أنا أؤديها قبلت منها, ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض فإن شرطته على نفسها ثم رجعت, كان لها ذلك وإن بذلت الجزية لتصير إلى دار الإسلام مكنت من ذلك بغير شيء ولكن يشترط عليها التزام أحكام الإسلام, وتعقد لها الذمة ولا يؤخذ منها شيء إلا أن تتبرع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها وإن أخذ منها شيء على غير ذلك, رد إليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وأن دمها لا يحقن إلا به فأشبه من أدى مالا إلى من يعتقد أنه له, فتبين أنه ليس له ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه إلا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة عقدت لهن بغير شيء, وحرم استرقاقهن كالتى قبلها سواء فإن كان في الحصن معهن رجال فسألوا الصلح, لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم تصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه, وبرءوا من تجب عليه وإن بذلوا جزية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز, وكان ذلك زيادة في جزيتهم وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من لا تلزمه فإن كان القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزئ في الجزية أخذ منهم, وسقط الباقي.
فصل ومن بلغ من أولاد أهل الذمة أو أفاق من مجانينهم فهو من أهلها بالعقد الأول, لا يحتاج إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع: هو مخير بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه فإن اختار الذمة, عقدت له وإلا ألحق بمأمنه وهو قول الشافعي ولنا أنه لم يأت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من خلفائه, تجديد العقد لهؤلاء ولأن العقد يكون مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم, ولأنه عقد عهد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه لذلك كالهدنة, ولأن الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج إلى تجديده لهم عند تغير أحوالهم كغيرهم, ولأنه عقد دخلوا فيه فيلزمهم بعد البلوغ والإفاقة كالإسلام إذا ثبت, هذا فإن كان البلوغ والإفاقة في أول حول قومه أخذ منه في آخره معهم وإن كان في أثناء الحول, أخذ منه عند تمام الحول بقسطه ولم يترك حتى يتم حوله لئلا يحتاج إلى إفراده بحول, وضبط حول كل إنسان منهم وربما أفضى إلى أن يصير لكل واحد حول منفردا.
فصل ومن كان يجن ويفيق فله ثلاثة أحوال أحدها, أن يكون جنونه غير مضبوط مثل من يفيق ساعة من يوم أو أيام أو يصرع ساعة من يوم أو أيام, فهذا يعتبر حاله بالأغلب لأن مدة الإفاقة غير ممكن مراعاتها لتعذر ضبطها الثاني أن يكون مضبوطا, مثل من يجن يوما ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر, إلا أنه مضبوط ففيه وجهان أحدهما يعتبر الأغلب من حاله, وهذا مذهب أبى حنيفة رضي الله عنه لأنه يجن ويفيق فيعتبر الأغلب من حاله كالأول والثاني تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقا في الكل وجبت الجزية, فإذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيما يجب به لو انفرد فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان أحدهما أن أيامه تلفق, فإذا كملت حولا أخذت منه لأن أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل كمال الحول, فلم يجز كالصحيح والثاني يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه, كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس, ففيه الوجهان كما ذكرنا فإن استوت إفاقته وجنونه مثل من يجن يوما ويفيق يوما أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة, لفقت إفاقته لأنه تعذر اعتبار الأغلب لعدمه فتعين الاحتمال الآخر الحال الثالث أن يجن نصف حول, ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا, فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق من الحول على ما تقدم شرحه, والله أعلم.
مسألة قال: [ولا على فقير] يعني الفقير العاجز عن أدائها وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في الآخر: يجب عليه لقوله عليه السلام: (خذ من كل حالم دينارا) ولأن دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر عليه ولنا, أن عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقير المعتمل فيدل على أن المعتمل لا شيء عليه, ولأن الله تعالى قال: قال: [ولا شيخ فان, ولا زمِن ولا أعمى] هؤلاء الثلاثة ومن في معناهم ممن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه, لا جزية عليهم وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي في أحد قوليه: عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية, كالنساء والصبيان. قال: [ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما] لا خلاف في هذا نعلمه لأنه يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا جزية على العبد) وعن ابن عمر مثله ولأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده, فيؤدى إيجابه على عبد المسلم إلى إيجاب الجزية على مسلم فأما إن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزية عليه أيضا وهو قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكر من الحديث, ولأنه محقون الدم فأشبه النساء والصبيان أو لا مال له, فأشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي إيجاب الجزية عليه يؤديها سيده وروى ذلك أيضا عن أحمد وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا, ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه قال أحمد: أراد أن يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدى عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم وروى عن على مثل حديث عمر ولأنه ذكر مكلف قوى مكتسب فوجبت عليه الجزية, كالحر والأول أولى. ومن بعضه حر فقياس المذهب أن عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم يتجزأ يختلف بالرق والحرية فيقسم على قدر ما فيه كالإرث. ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل وجوبها عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروى عن عمر بن عبد العزيز, أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارين ووجه ذلك عموم النصوص ولأنه كافر صحيح قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس ووجه الأول, أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء, وقد ذكرنا أنه يحرم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن, ولأنه لا كسب له فأشبه الفقير غير المعتمل. قال: [ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه, سقطت عنه الجزية] وجملته أن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول لم تجب عليه الجزية وإن أسلم بعد الحول سقطت عنه وهذا قول مالك, والثوري وأبى عبيد وأصحاب الرأي وقال الشافعي وأبو ثور, وابن المنذر: إن أسلم بعد الحول لم تسقط لأنها دين يستحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالإسلام, كالخراج وسائر الديون وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان أحدهما عليه من الجزية بالقسط كما لو أفاق بعد الحول ولنا, قول الله تعالى: فصل وإن مات الذمي بعد الحول, لم تسقط الجزية عنه في ظاهر كلام أحمد ذكره أحمد وهو مذهب الشافعي وحكى أبو الخطاب عن القاضي, أنها تسقط بالموت وهو قول أبى حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود, ولأنها تسقط بالإسلام فتسقط بالموت كما قبل الحول ولنا, أنه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين, والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الإسلام فإنه الأصل, والجزية بدل عنه فإذا أتى بالأصل استغنى عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه إلى التيمم, بخلاف الموت ولأن الإسلام قربة وطاعة يصلح أن يكون معاذا من الجزية, كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه.
فصل ولا تتداخل الجزية بل إذا اجتمعت عليه جزية سنين, استوفيت منه كلها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود ولنا, أنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم تتداخل, كالدية.
مسألة قال: [وإذا أعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان المعتق له مسلما أو كافرا] هذا الصحيح عن أحمد رواه عنه جماعة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان, والليث وابن لهيعة والشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد يقر بغير جزية وروى نحو هذا عن الشعبي لأن الولاء شعبة من الرق, وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال: هذا قول قديم رجع عنه أحمد, والعمل على ما رواه الجماعة وعن مالك كقول الجماعة وعنه إن كان المعتق له مسلما فلا جزية عليه, لأن عليه الولاء لمسلم فأشبه ما لو كان عليه الرق ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتل, فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الأصلى فإذا ثبت هذا فإن حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم, أو أفاق من مجانينهم على ما مضى.
مسألة قال: [ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم, مثلي ما يؤخذ من المسلمين] بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار, انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا, وأنفوا وقالوا: نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم, فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية, فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم, وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا, ومن كل مائتى درهم عشرة دراهم وفيما سقت السماء الخمس وفيما سقى بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر, ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار إجماعا وقال به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبى ليلى والحسن بن صالح, وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز, أنه أبى على نصارى بنى تغلب إلا الجزية وقال: لا والله إلا الجزية وإلا فقد آذنتكم بالحرب والحجة لهذا عموم الآية فيهم وروى عن على رضي الله عنه أنه قال: لئن تفرغت لبنى تغلب ليكونن لي فيهم رأي, لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد, وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن لا ينصروا أولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا من الإجماع وأما الآية فإن هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فإن الجزية يجوز أخذها من العروض.
فصل قال أصحابنا: تؤخذ الصدقة مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وهذا قول أبى حنيفة, وأبى عبيد وذكر أنه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من مال نسائهم وصبيانهم ومجانينهم وزمناهم ومكافيفهم وشيوخهم إلا أن أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون, فكذا الواجب على بنى تغلب لا يجب في مال صبي ولا مجنون إلا في الأرض خاصة وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة, فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء والصبيان والمجانين قال: وقد روى عن عمر أنه قال: هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى, وأبوا الاسم وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة, ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم ومساكنهم فكان جزية كما لو أخذ باسم الجزية, يحققه أن الزكاة طهرة وهؤلاء لا طهرة لهم فعلى هذا يكون مصرف المأخوذ منهم مصرف الفيء, لا مصرف الصدقات وهذا أقيس واحتج أصحابنا بأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم عمر إليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة, من كل مال زكوى لأى مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض, كذلك المأخوذ من بنى تغلب ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبى بهذا الصلح ودخلوا في حكمه, فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيرا أو له مال غير زكوى كالدور, وثياب البذلة وعبيد الخدمة لا شيء عليه, كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ مما لم يبلغ نصابا فأما مصرف المأخوذ منهم فاختار القاضي أن مصرفه مصرف الفيء لأنه مأخوذ من مشرك, ولأنه جزية مسماة بالصدقة وقال أبو الخطاب: مصرفه إلى أهل الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به في من يؤخذ منه - مسلك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها والأول أقيس وأصح لأن معنى الشيء أخص به من اسمه ولهذا لو سمى رجل أسدا, أو نمرا أو أسود أو أحمر, لم يصر له حكم المسمى بذلك ولأن هذا لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أعلمهم أن عليهم صدقة, تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ) .
فصل فإن بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة, لم يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا فلا يغير ويحتمل أن يقبل منه لقول الله تعالى: فأما سائر أهل الكتاب من النصارى واليهود العرب وغيرهم فالجزية منهم مقبولة, ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بنى تغلب نص أحمد على هذا ورواه عن الزهري قال: ونذهب إلى أن يأخذ من مواشى بنى تغلب خاصة الصدقة ونضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي وأبو الخطاب, أن حكم من تنصر من تنوخ وبهراء أو تهود من كنانة وحمير أو تمجس من تميم, حكم بنى تغلب سواء وذكر ذلك عن الشافعي نص عليه في تنوخ وبهراء لأنهم من العرب, فأشبهوا بنى تغلب ولنا عموم قوله تعالى: فصل وإذا اتجر نصرانى تغلبى فمر بالعاشر فقال أحمد: يؤخذ منه العشر ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة وروى بإسناده, عن زياد بن حدير أن عمر بعثه مصدقا فأمره أن يأخذ من نصارى بنى تغلب العشر, ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر ورواه أبو عبيد وقال: حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة هو الذي عليه العمل, أن يكون عليهم الضعف مما على المسلمين ألا تسمعه يقول: من كل عشرين درهما درهما؟ وإنما يؤخذ من المسلمين إذا مروا بأموالهم ربع العشر من كل أربعين درهما درهم فذاك ضعف هذا وهذا ظاهر كلام الخرقي لقوله: مثلى ما يؤخذ من المسلمين وهو أقيس فإن الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على المسلمين, لا ضعف ما على أهل الذمة.
مسألة قال: [ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين عن أبى عبد الله -رحمه الله- والرواية الأخرى, تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم] اختلفت الرواية عن أبى عبد الله في أكل ذبائحهم, ونكاح نسائهم فعنه لا يحل ذلك وهو قول على بن أبى طالب رضي الله عنه ومذهب الشافعي ولم يبح الشافعي ذبائح العرب من أهل الكتاب كلهم وكره ذبائح بنى تغلب عطاء, وسعيد بن جبير ومحمد بن على والنخعي وقال على رضي الله عنه إنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر ولأنه يحتمل أنهم دخلوا في دين الكفر بعد التبديل, فلم يحل ذلك منهم والرواية الثانية تحل ذبائحهم ونساؤهم وهذا الصحيح عن أحمد رواه عنه الجماعة وكان آخر الروايتين عنه قال إبراهيم بن الحارث: فكان آخر قوله على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا وهذا قول ابن عباس وروى نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الحسن, والنخعي والشعبي والزهري, وعطاء الخراسانى والحكم وحماد, وإسحاق وأصحاب الرأي قال الأثرم: وما علمت أحدا كرهه من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عليا وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى: قال: [ومن يجز من أهل الذمة إلى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة] اشتهر هذا عن عمر رضي الله عنه وصحت الرواية عنه به وقال الشافعي: ليس عليه إلا الجزية إلا أن يدخل أرض الحجاز, فينظر في حاله فإن كان لرسالة أو نقل ميرة أذن له بغير شيء, وإن كان لتجارة لا حاجة بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضا بحسب ما يراه والأولى أن يشترط نصف العشر لأن عمر شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس على المسلمين عشور, إنما العشور على اليهود والنصارى) رواه أبو داود وروى الإمام أحمد عن سفيان عن هشام, عن أنس بن سيرين قال: بعثنى أنس بن مالك إلى العشور فقلت: تبعثنى إلى العشور من بين عمالك, قال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلنى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ أمرنى أن آخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر وهذا كان بالعراق وروى أبو عبيد, في كتاب الأموال بإسناده عن لاحق بن حميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة, فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما وقد ذكرنا حديث زياد بن حدير أن عمر أمره أن يأخذ من نصارى بنى تغلب العشر, ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر وهذا كان بالعراق واشتهرت هذه القصص ولم تنكر فكانت إجماعا, وعمل به الخلفاء بعده ولم يأت تخصيص الحجاز بنصف العشر في شيء من الأحاديث علمناه لا عن عمر ولا عن غيره من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, بل ظاهر أحاديثهم أن ذلك في غير الحجاز وما وجب من المال في الحجاز وجب في غيره كالديون والصدقات. ولا تؤخذ منهم في السنة إلا مرة نص عليه أحمد, في رواية جماعة من أصحابه وقال: كذا روى عن إبراهيم النخعي عن عمر حين كتب ألا يأخذ في السنة إلا مرة, أن يأخذ من الذمي نصف العشر وهذا قول الشافعي في الداخلين أرض الحجاز وروى الإمام أحمد بإسناده, قال: جاء رجل نصرانى إلى عمر فقال: إن عاملك عشرنى في السنة مرتين قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصرانى قال عمر: وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله أن لا تعشروا في السنة إلا مرة ولأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة واحدة, فكذلك هذا فإذا ثبت هذا فإنه متى أخذ منهم ذلك مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم, وحجة على من يمرون عليه فلا يعشرهم ثانية فإن مر ثانية بأكثر من المال الذي أخذ منه, أخذ من الزيادة لأنها لم تعشر. ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة لم يؤخذ منه شيء نص عليه أحمد, وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر فروى عنه صالح من كل عشرين دينارا دينار يعني فإذا نقصت من العشرين فليس عليه شيء, لأن ما دون النصاب لا تجب فيه زكاة على مسلم ولا على تغلبى فلا يجب فيه على ذمي شيء, كالذي دون العشرة وروى صالح أيضا أنه قال: إذا مروا بالعاشر فإن كانوا أهل الحرب, أخذ منهم العشر من العشرة واحدا وإن كانوا من أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر, من كل عشرين دينارا دينارا فإذا نقصت فليس عليه شيء وإن نقص مال الحربى عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شيء, ولا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة المسلم والذمي في ذلك سواء وروى عن أحمد أن في العشرة نصف مثقال, وليس فيما دون العشرة شيء نص على هذا في رواية أبى الحارث قال: قلت إذا كان مع الذمي عشرة دنانير؟ قال: تأخذ منه نصف دينار قلت: فإن كان معه أقل من عشرة دنانير؟ قال: إذا نقصت لم يؤخذ منه شيء وذلك لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار, فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم أو نقول: مال معشور فوجب في العشرة منه كمال الحربى وقال ابن حامد: يؤخذ عشر الحربى ونصف عشر الذمي من ما قل أو كثر لأن عمر قال: خذ من كل عشرين درهما درهما ولأنه حق عليه, فوجب في قليله وكثيره كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها ولنا أنه عشر أو نصف عشر وجب بالشرع, فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمر ولأنه حق يتقدر بالحول, فاعتبر له النصاب كالزكاة وأما قول عمر فالمراد به - والله أعلم - بيان قدر المأخوذ, وأنه نصف العشر ومعناه إذا كان معه عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهما درهما لأن في صدر الحديث أن عمر بعث مصدقا وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما, ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا وإنما يؤخذ ذلك من المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيره. واختلفت الرواية عن أحمد, في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال في موضع: قال عمر: ولوهم بيعها لا يكون إلا على الآخذ منها وروى بإسناده عن سويد بن غفلة, في قول عمر: ولوهم بيع الخمر والخنزير بعشرها قال أحمد: إسناد جيد وممن رأى ذلك مسروق والنخعي وأبو حنيفة ووافقهم محمد بن الحسن في الخمر خاصة وذكر القاضي أن أحمد نص على أنه لا يؤخذ منهم شيء وبه قال عمر بن عبد العزيز, وأبو عبيد وأبو ثور قال عمر بن عبد العزيز: الخمر لا يعشرها مسلم وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عتبة بن فرقد بعث إليه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر: بعثت إلى بصدقة الخمر, وأنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس وقال: والله لا أستعملنك على شيء بعدها قال: فنزعه قال أبو عبيد: ومعنى قول عمر رضي الله عنه: ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم, وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها, إذا كان أهل الذمة المتولين بيعها وروى بإسناده عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال: لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها, وخذوا أنتم من الثمن. ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم على جزية رءوسهم وخراج أرضهم احتجاجا بقول عمر هذا ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها والتصرف فيها, فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم. وإذا مر الذمي بالعاشر وعليه دين بقدر ما معه, أو ينقص عن النصاب فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذ نصف العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول, فيمنعه الدين كالزكاة فإن ادعى أن عليه دينا لم يقبل ذلك إلا ببينة من المسلمين لأن الأصل براءة ذمته منه وإن مر بجارية, فادعى أنها بنته أو أخته ففيه روايتان إحداهما يقبل قوله قال الخلال: وهو أشبه القولين لأن الأصل عدم ملكه فيها والثانية, لا يقبل إلا ببينة لأنها في يده فأشبهت بهيمته. قال: [وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر] وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منه شيء, إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا فنأخذ منهم مثله لما روى عن أبى مجلز لاحق بن حميد, قال: قالوا لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟ قالوا: العشر قال: فكذلك خذوا منهم وعن زياد بن حدير قال: كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا قال: من كنتم تعشرون؟ قال: كفار أهل الحرب فنأخذ منهم كما يأخذون منا وقال الشافعي: إن دخل إلينا بتجارة لا يحتاج إليها المسلمون, لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه عليه ومهما شرط جاز ويستحب أن يشترط العشر ليوافق فعله فعل عمر رضي الله عنه وإن أذن مطلقا من غير شرط, فالمذهب أنه لا يؤخذ منهم شيء لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شيء, كالهدنة ويحتمل أن يجب العشر لأن عمر أخذه ولنا ما رويناه في المسألة: التي قبلها ولأن عمر أخذ منهم العشر, واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء الراشدون بعده والأئمة بعده في كل عصر, من غير نكير فأى إجماع يكون أقوى من هذا؟ ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالتخمين من غير نقل, ولأن مطلق الأمر يحمل على المعهود في الشرع وقد استمر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء الراشدين فيجب أخذه فأما سؤال عمر عما يأخذون منا, فإنما كان لأنهم سألوه عن كيفية الأخذ ومقداره ثم استمر الأخذ من غير سؤال ولو تقيد أخذنا منهم بأخذهم منا, لوجب أن يسأل عنه في كل وقت. ويؤخذ منهم العشر من كل مال للتجارة في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي: إذا دخلوا في نقل ميرة بالناس إليها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر يؤخذ منهم وهذا قول الشافعي لأن دخولهم نفع للمسلمين ولنا, عموم ما رويناه وروى صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدى عن مالك, عن الزهري عن سالم عن أبيه, عن عمر أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف العشر, ليكثر الحمل إلى المدينة وهذا يدل على أنه يخفف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك أيضا إذا رأى المصلحة. ويؤخذ العشر من كل حربى تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر, سواء كان ذكرا أو أنثى أو صغيرا أو كبيرا وقال القاضي: ليس على المرأة عشر ولا نصف عشر, سواء كانت حربية أو ذمية لكن إن دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الإقامة به ولا يعرف هذا التفصيل عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بنى تغلب وصبيانهم, فكذلك يوجب العشر أو نصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون النساء وليس هذا بجزية, وإنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الإسلام وانتفاعه بالتجارة فيها, فيستوى فيه الرجل والمرأة كالزكاة في حق المسلمين. ولا يعشرون في السنة إلا مرة ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير نص عليهما أحمد وحكى عن أبى عبد الله بن حامد, أن الحربى يعشر كلما دخل إلينا وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأننا لو أخذنا منه مرة واحدة لا نأمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت السنة الأخرى لم يدخلوا, فتعذر الأخذ منهم ولنا أنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ أكثر من مرة في السنة, كالزكاة ونصف العشر من الذمي وقولهم: يفوت غير صحيح فإنه يؤخذ منه أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه, فلا يؤخذ منه شيء حتى تمضى تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه, في أول ما يدخل وإن لم يدخل فما فات من حق السنة الأولى شيء. وليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمان لأنه لا يؤمن أن يدخل جاسوسا, أو متلصصا فيضر بالمسلمين فإن دخل بغير أمان, سئل فإن قال: جئت رسولا فالقول قوله لأنه تتعذر إقامة البينة على ذلك ولم تزل الرسل تأتى من غير تقدم أمان وإن قال: جئت تاجرا نظرنا فإن كان معه متاع يبيعه, قبل قوله أيضا وحقن دمه لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم وإن لم يكن معه ما يتجر به, لم يقبل قوله لأن التجارة لا تحصل بغير مال وكذلك مدعى الرسالة إذا لم يكن معه رسالة يؤديها أو كان ممن لا يكون مثله رسولا وإن قال: أمننى مسلم فهل يقبل منه؟ على وجهين أحدهما, يقبل تغليبا لحقن دمه كما يقبل من الرسول والتاجر والثاني, لا يقبل لأن إقامة البينة عليه ممكنة فإن قال: مسلم: أنا أمنته قبل قوله لأنه يملك أن يؤمنه فقبل قوله فيه كالحاكم إذا قال: حكمت لفلان على فلان بحق وإن كان جاسوسا, خير الإمام فيه بين أربعة أشياء كالأسير وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح إلينا في مركب فقد ذكرنا حكمه. قال: [ومن نقض العهد, بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه وماله] وجملة ذلك أنه ينبغي للإمام عند عقد الهدنة أن يشترط عليهم شروطا, نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه وقد رويت عن عمر رضي الله عنه في ذلك أخبار, منها ما رواه الخلال بإسناده عن إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم, قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا حين قدمنا من بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة, ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا, ولا ما كان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل, ولا نؤوى فيها ولا في منازلنا جاسوسا وأن لا نكتم أمر من غش المسلمين وأن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا, ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون, ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين وألا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا, ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وأن لا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور, ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا, ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وأن لا نمنع أحدا من أقربائنا إذا أراد الدخول في الإسلام وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين, ولا فرق شعر ولا في مواكبهم ولا نتكلم بكلامهم, وإن لا نتكنى بكناهم وأن نجز مقادم رءوسنا ولا نفرق نواصينا, ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج, ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وأن نوقر المسلمين في مجالسهم, ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم, ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة, وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد ضمنا ذلك على أنفسنا, وذرارينا وأزواجنا ومساكننا وإن نحن غيرنا, أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب لهم عمر: أن أمض لهم ما سألوه, وألحق فيه حرفين اشترط عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا, فقد خلع عهده فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فإذا صولحوا عليها ثم نقض بعضهم شيئا منها فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض به وهو ظاهر ما رويناه لقولهم في الكتاب: إن نحن خالفنا, فقد حل لك منا ما يحل لك من أهل المعاندة والشقاق وقال عمر: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده ولأنه عقد بشرط فمتى لم يوجد الشرط زال حكم العقد كما لو امتنع من التزام الأحكام وذكر القاضي, والشريف أبو جعفر أن الشروط قسمان أحدهما ينتقض العهد بمخالفته وهو أحد عشر شيئا الامتناع من بذل الجزية, وجرى أحكامنا عليهم إذا حكم بها حاكم والاجتماع على قتال المسلمين والزنى بمسلمة وإصابتها باسم نكاح, وفتن مسلم عن دينه وقطع الطريق عليه وقتله, وإيواء جاسوس المشركين والمعاونة على المسلمين بدلالة المشركين على عوراتهم أو مكاتبتهم وذكر الله تعالى أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء, فالخصلتان الأوليان ينتقض العهد بهما بلا خلاف في المذهب وهو مذهب الشافعي وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب لأن إطلاق الأمان يقتضي ذلك فإذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلونا لزمنا قتالهم, وذلك ضد الأمان وسائر الخصال فيها روايتان إحداهما أن العهد ينتقض بها, سواء شرط عليهم ذلك أو لم يشترط وظاهر مذهب الشافعي قريب من هذا إلا أن ما لم يشترط عليهم لا ينتقض العهد بتركه ما خلا الخصال الثلاث الأولى, فإنه يتعين شرطها وينتقض العهد بتركها بكل حال وقال أبو حنيفة: لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه لا يتعذر معه أخذ الجزية منهم ولنا مع ما ذكرناه, ما روى أن عمر رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال: ما على هذا صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس ولأن فيه ضررا على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية وكل موضع قلنا: لا ينتقض عهده فإنه إن فعل ما فيه حد أقيم عليه حده أو قصاصه, وإن لم يوجب حدا عزر ويفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله فإن أراد أحد منهم فعل ذلك كف عنه فإن مانع بالقتال نقض عهده ومن حكمنا بنقض عهده منهم, خير الإمام فيه بين أربعة أشياء القتل والاسترقاق والفداء, والمن كالأسير الحربى لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهد ولا عقد ولا شبهة ذلك, فأشبه اللص الحربى ويختص ذلك به دون ذريته لأن النقض إنما وجد منه دونهم فاختص به كما لو أتى ما يوجب حدا أو تعزيرا. أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام أحدها, ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم, ولا يجوز صلحهم على ذلك بدليل ما روى عن عكرمة قال: قال ابن عباس: أيما مصر مصرته العرب, فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا, ولا يتخذوا فيه خنزيرا رواه الإمام أحمد واحتج به ولأن هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من البيع والكنائس, مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه القسم الثاني, ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه لأنها صارت ملكا للمسلمين وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان أحدهما, يجب هدمه وتحرم تبقيته لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن تكون فيها بيعة, كالبلاد التي اختطها المسلمون والثاني يجوز لأن في حديث ابن عباس: أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه, فإن للعجم ما في عهدهم ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة, فلم يهدموا شيئا من الكنائس ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم أنها ما أحدثت, فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله أن لا يهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار ولأن الإجماع قد حصل على ذلك, فإنها موجودة في بلاد المسلمين من غير نكير القسم الثالث ما فتح صلحا وهو نوعان أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لهم, ولنا الخراج عنها فلهم إحداث ما يحتاجون فيها لأن الدار لهم والثاني أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين, ويؤدون الجزية إلينا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك, وعمارته لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معينا والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم, أن لا يحدثوا بيعة ولا كنيسة ولا صومعة راهب, ولا قلاية وإن وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه فأما الذين صالحهم عمر, وعقد معهم الذمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها وما وجد في بلاد المسلمين من الكنائس والبيع, فهي على ما كانت عليه في زمن فاتحيها ومن بعدهم وكل موضع قلنا: يجوز إقرارها لم يجز هدمها ولهم رم ما تشعث منها, وإصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي إلى خرابها وذهابها فجرى مجرى هدمها وإن وقعت كلها لم يجز بناؤها وهو قول بعض أصحاب الشافعي وعن أحمد أنه يجوز وهو قول أبى حنيفة, والشافعي لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولأن استدامتها جائزة وبناؤها كاستدامتها وحمل الخلال قول أحمد: لهم أن يبنوا ما انهدم منها أي إذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم, على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين ولنا أن في كتاب أهل الجزيرة لعياض بن غنم: ولا نجدد ما خرب من كنائسنا وروى كثير بن مرة, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها) ولأن هذا بناء كنيسة في دار الإسلام فلم يجز كما لو ابتدئ بناؤها وفارق رم شعثها فإنه إبقاء واستدامة, وهذا إحداث. ومن استحدث من أهل الذمة بناء لم يجز له منعه حتى يكون أطول من بناء المسلمين المجاورين له لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الإسلام يعلو ولا يعلى) ولأن في ذلك رتبة على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك, ولهذا يمنعون من صدور المجالس ويلجئون إلى أضيق الطرق ولا يمنع من تعلية بنائه على من ليس بمجاور له لأن علوها إنما يكون ضررا على المجاور لها دون غيره وفي جواز مساواة المسلمين وجهان أحدهما, الجواز لأنه ليس بمستطيل على المسلمين والثاني المنع لقوله عليه السلام: (الإسلام يعلو ولا يعلى) ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم كذلك في بنائهم, فإن كان للذمي دار عالية فملك المسلم دارا إلى جانبها أو بنى المسلم إلى جانب دار ذمي دارا دونها, أو اشترى ذمي دارا عالية لمسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها لأنه لم يعل على المسلمين شيئا فإن انهدمت داره العالية, ثم جدد بناءها لم يجز له تعليته على بناء المسلمين وإن انهدم ما علا منها لم تكن له إعادته وإن تشعث منه شيء ولم ينهدم, فله رمه وإصلاحه لأنه ملك استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة. ولا يجوز لأحد منهم سكنى الحجاز وبهذا قال مالك, والشافعي إلا أن مالكا قال: أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) وروى أبو داود بإسناده عن عمر أنه (سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب, فلا أترك فيها إلا مسلما) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وعن ابن عباس قال: (أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أشياء قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب, وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) وسكت عن الثالث رواه أبو داود وجزيرة العرب ما بين الوادى إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز وقال الأصمعى وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عدن طولا ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا وقال أبو عبيدة: هي من حفر أبى موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى منقطع السماوة عرضا قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها, ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها وقال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها وهو مكة واليمامة, وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن وقد روى عن أبى عبيدة بن الجراح, أنه قال: (إن آخر ما تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أخرجوا اليهود من الحجاز) فأما إخراج أهل نجران منه فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز, وإنما سمى حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيماء وفيد ونحوهما لأن عمر لم يمنعهم من ذلك. ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة ؛ لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة، فقال: أنا الشيخ النصراني، وإن عاملك عشرني مرتين. فقال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. وكتب له عمر، أن لا يعشروا في السنة إلا مرة. ولا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام - على ما روي عن عمر، رضي الله عنه - ثم ينتقل عنه. وقال القاضي: يقيم أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة. والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الإذن، كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام. وإذا مرض بالحجاز، جازت له الإقامة، لأنه يشق الانتقال على المريض، وتجوز الإقامة لمن يمرضه ؛ لأنه لا يستغني عنه. وإن كان له دين على أحد وكان حالا، أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر وفاؤه لمطل، أو تغيب عنه، فينبغي أن يمكن من الإقامة، ليستوفي دينه ؛ لأن التعدي من غيره، وفي إخراجه ذهاب ماله. وإن كان الدين مؤجلا، لم يمكن من الإقامة، ويوكل من يستوفيه له ؛ لأن التفريط منه، وإن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته، احتمل أن يجوز ؛ لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله، وذلك مما يمنع من الدخول بالبضائع إلى الحجاز، فتفوت مصلحتهم، وتلحقهم المضرة، بانقطاع الجلب عنهم. ويحتمل أن يمنع من الإقامة ؛ لأن له من الإقامة بدا. فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز، جاز، ويقيم فيه أيضا ثلاثة أيام، أو أربعة، على الخلاف فيه، وكذلك إذا انتقل منه إلى مكان آخر، جاز، ولو حصلت الإقامة في الجميع شهرا. وإذا مات بالحجاز دفن به ؛ لأنه يشق نقله، وإذا جازت الإقامة للمريض، فدفن الميت أولى . فأما الحرم, فليس لهم دخوله بحال وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لهم دخوله كالحجاز كله ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة والمنع من الاستيطان لا يمنع الدخول والتصرف, كالحجاز ولنا قول الله تعالى: فصل فأما مساجد الحل, فليس لهم دخولها بغير إذن المسلمين لأن عليا رضي الله عنه بصر بمجوسى وهو على المنبر وقد دخل المسجد, فنزل وضربه وأخرجه من أبواب كندة فإن أذن لهم في دخولها, جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم عليه وفد أهل الطائف فأنزلهم من المسجد قبل إسلامهم وقال سعيد بن المسيب: قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن وهب فدخل المسجد والنبي -صلى الله عليه وسلم- فيه, ليفتك به فرزقه الله الإسلام وفيه رواية أخرى ليس لهم دخوله بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله, فقال له عمر: ادع الذي كتبه ليقرأه قال: إنه لا يدخل المسجد قال: ولم؟ قال: إنه نصرانى وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقرره عندهم ولأن حدث الجنابة والحيض والنفاس يمنع المقام في المسجد, فحدث الشرك أولى.
فصل والمأخوذ في أحكام الذمة ينقسم خمسة أقسام أحدها ما لا يتم العقد إلا بذكره وهو شيئان التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فإن أخل بذكر واحد منهما, لم يصح العقد وفي معناهما ترك قتال المسلمين فإنه وإن لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه القسم الثاني, ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وهو ثمانى خصال ذكرناها فيما تقدم القسم الثالث, ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو دينهم أو رسولهم بسوء القسم الرابع ما فيه إظهار منكر, وهو خمسة أشياء إحداث البيع والكنائس ونحوها ورفع أصواتهم بكتبهم بين المسلمين وإظهار الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس, وتعلية البنيان على أبنية المسلمين والإقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف عنه, سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع ما في هذه الأقسام الثلاثة القسم الخامس التميز على المسلمين في أربعة أشياء لباسهم, وشعورهم وركوبهم وكناهم أما لباسهم فهو أن يلبسوا ثوبا يخالف لونه لون سائر الثياب, فعادة اليهود العسلى وعادة النصارى الأدكن وهو الفاختي, ويكون هذا في ثوب واحد لا في جميعها ليقع الفرق, ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانيا أو علامة أخرى إن لم يكن نصرانيا, كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوته يخالف لونها لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد أو جلجل ليفرق بينه وبين المسلمين في الحمام, ويلبس نساؤهم ثوبا ملونا ويشد الزنار تحت ثيابهم وتختم في رقبتها ولا يمنعون لبس فاخر الثياب, ولا العمائم ولا الطيلسان لأن التمييز حصل بالغيار والزنار وأما الشعور فإنهم يحذفون مقاديم رءوسهم, ويجزون شعورهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق شعره وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز, ولهم ركوب ما سواها ولا يركبون السروج ويركبون عرضا رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال بإسناده, أن عمر أمر بجز نواصى أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض ويمنعون تقلد السيوف, وحمل السلاح واتخاذه وأما الكنى فلا يكتنوا بكنى المسلمين كأبى القاسم, وأبى عبد الله وأبى محمد وأبى بكر, وأبى الحسن وشبهها ولا يمنعون الكنى بالكلية, فإن أحمد قال لطبيب نصرانى: يا أبا إسحاق وقال: أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل على سعد بن عبادة قال: " أما ترى ما يقول أبو الخباب؟ (وقال لأسقف نجران: أسلم أبا الحارث) وقال عمر لنصرانى: يا أبا حسان أسلم تسلم.
فصل وإذا عقد معهم الذمة، كتب أسماءهم، وأسماء آبائهم، وعددهم، وحليهم ودينهم، فيقول: فلان بن فلان الفلاني، طويل أو قصير أو ربعة، أسمر أو أبيض، أدعج العينين، أقنى الأنف، مقرون الحاجبين. ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد من الآخر، ويجعل لكل عشرة عريفا يراعي من يبلغ منهم أو يفيق من جنون، أو يقدم من غيبة، أو يسلم، أو يموت، أو يغيب، ويجبي جزيتهم، فيكون ذلك أحوط لحفظ جزيتهم .
فصل وإذا مات الإمام أو عزل, وولى غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة من كان قبله وكان عقدا صحيحا, أقرهم عليه لأن الخلفاء أقروا عقد عمر ولم يجددوا عقدا سواه ولأن عقد الذمة مؤبد وإن كان فاسدا رده إلى الصحة وإن لم يعرف, فشهد به مسلمان أو كان أمره ظاهرا عمل به وإن أشكل عليه, سألهم فإن ادعوا العهد بما يصلح أن يكون جزية قبل قولهم, وعمل به وإن شاء استحلفهم استظهارا فإن بان له بعد ذلك أنهم نقضوا من المشروط عليهم شيئا, رجع بما نقضوا وإن قالوا كنا نؤدى كذا وكذا جزية وكذا وكذا هدية استحلفهم يمينا واحدة لأن الظاهر فيما يدفعونه أنه جزية واختار أبو الخطاب أنه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم لأن عقد الأول لم يثبت عنده, فصار كالمعدوم.
مسألة قال: [ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا] يعني يصير حكمه حكم أهل الحرب سواء كان رجلا أو امرأة, ومتى قدر عليه أبيح منه ما يباح من الحربى من القتل والاسترقاق, وأخذ المال وإن هرب الذمي بأهله وذريته أبيح من البالغين منهم ما يباح من أهل الحرب ولم يبح سبى الذرية لأن النقض إنما وجد من البالغين دون الذرية.
فصل وإن نقضت طائفة من أهل الذمة, جاز غزوهم وقتلهم وإن نقض بعضهم دون بعض اختص حكم النقض بالناقض دون غيره وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز أن ينبذ إليهم عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم, بدليل أن الإمام تلزمه إجابتهم إليه بخلاف عقد الأمان والهدنة فإنه لمصلحة المسلمين ولأن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة, ولذلك إذا نقض بعض أهل الذمة العهد وسكت بعضهم لم يكن سكوتهم نقضا, وفي عقد الهدنة يكون نقضا.
فصل وإذا عقد الذمة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم ولهذا قال علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا, ودماؤهم كدمائنا وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده: وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرا أن يوفى لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم.
فصل وإذا تحاكم إلينا مسلم مع ذمي وجب الحكم بينهم لأن عليا حفظ الذمي من ظلم المسلم, وحفظ المسلم منه وإن تحاكم بعضهم مع بعض أو استعدى بعضهم على بعض خير الحاكم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم, لقول الله تعالى: فصل ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا فقه فإن فعل, فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى قال مهنا: سألت أحمد أبا عبد الله: هل تكره للرجل المسلم أن يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال: إن أسلم فنعم وإلا فأكره أن يضع القرآن في غير موضعه قلت: فيعلمه أن يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة؟ قال: لا (نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو) .
فصل ولا يجوز تصديرهم في المجالس, ولا بداءتهم بالسلام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها) أخرجه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنا غادون غدا فلا تبدءوهم بالسلام وإن سلموا عليكم, فقولوا: وعليكم) أخرجه الإمام أحمد بإسناده عن أنس أنه قال: (نهينا أو أمرنا, أن لا نزيد أهل الكتاب على وعليكم) قال أبو داود: قلت لأبي عبد الله: تكره أن يقول الرجل للذمى: كيف أصبحت؟ أو كيف حالك؟ أو كيف أنت؟ أو نحو هذا؟ قال: نعم هذا عندي أكثر من السلام وقال أبو عبد الله: إذا لقيته في الطريق فلا توسع له وذلك لما تقدم من حديث أبى هريرة وروى عن ابن عمر, أنه مر على رجل فسلم عليه فقيل إنه كافر فقال: رد على ما سلمت عليك فرد عليه فقال: أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه, فقال: أكثر للجزية وقال يعقوب بن بختان: سألت أبا عبد الله فقلت نعامل اليهود والنصارى فنأتيهم في منازلهم, وعندهم قوم مسلمون أسلم عليهم؟ قال: نعم تنوى السلام على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة, فكرهه.
فصل وما يذكر بعض أهل الذمة من أن الجزية لا تلزمهم وأن معهم كتابا من النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسقاطها عنهم لا يصح وسئل عن ذلك أبو العباس بن سريج, فقال: ما نقل ذلك أحد من المسلمين وذكر أنهم طولبوا بذلك فأخرجوا كتابا ذكروا أنه بخط على رضي الله عنه كتبه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان فيه شهادة سعد بن معاذ, ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولأن قولهم غير مقبول, ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته.
فصل قال أبو الخطاب: يمتهنون عند أخذ الجزية ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ذهب إلى قوله تعالى: قال أحمد في الرجل له المرأة النصرانية: لا يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعة, وله أن يمنعها ذلك وكذلك في الأمة قيل له: وأله أن يمنعها شرب الخمر؟ قال: يأمرها فإن لم تقبل فليس له منعها قيل له: فإن طلبت منه أن يشترى لها زنارا؟ قال: لا يشترى زنارا وتخرج هي تشترى لنفسها وسئل عن الذمي يعامل بالربا, ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم وذلك المال في يده, فقال: لا يلزمه أن يخرج منه شيئا لأن ذلك مضى حال كفره فأشبه نكاحهم في الكفر إذا أسلم وسئل عن المجوسيين يجعلان ولدهما مسلما فيموت وهو ابن خمس سنين؟ فقال: يدفن في مقابر المسلمين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) يعني أن هذين لم يمجساه, فيبقى على الفطرة وسئل أبو عبد الله عن أولاد المشركين؟ فقال: أذهب إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الله أعلم بما كانوا عاملين) قال: وكان ابن عباس يقول: " فأبواه يهودانه وينصرانه " حتى سمع: " الله أعلم بما كانوا عاملين " فترك قوله وسأله ابن الشافعي فقال: يا أبا عبد الله ذرارى المشركين أو المسلمين؟ فقال: هذه مسائل أهل الزيغ وقال أبو عبد الله: سأل بشر بن السرى سفيان الثوري عن أطفال المشركين, فصاح به وقال: يا صبي أنت تسأل عن هذا؟ قال أحمد: ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت, ولا نقول شيئا وسئل عن أطفال المسلمين فقال: ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه: عصفور من عصافير الجنة فقال: وهذا حديث, وذكر فيه رجلا ضعفه طلحة وسئل عن الرجل يسلم بشرط أن لا يصلى إلا صلاتين؟ فقال: يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس وقال: معنى حديث حكيم بن حزام: (بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن لا أخر إلا قائما) أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع قال: وحديث قتادة عن نصر بن عاصم (أن رجلا منهم بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلى طرفي النهار ) .
|